سورة النور تفسير القرطبي الآية 22
وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓاْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ ﴿٢٢﴾

سورة النور تفسير القرطبي

الْمَشْهُور مِنْ الرِّوَايَات أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قِصَّة أَبِي بَكْر بْن أَبِي قُحَافَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمِسْطَح بْن أُثَاثَة. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ اِبْن بِنْت خَالَته وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْبَدْرِيِّينَ الْمَسَاكِين . وَهُوَ مِسْطَح بْن أُثَاثَة بْن عَبَّاد بْن الْمُطَّلِب بْن عَبْد مَنَافٍ . وَقِيلَ : اِسْمه عَوْف , وَمِسْطَح لَقَب . وَكَانَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُنْفِق عَلَيْهِ لِمَسْكَنَتِهِ وَقَرَابَته ; فَلَمَّا وَقَعَ أَمْر الْإِفْك وَقَالَ فِيهِ مِسْطَح مَا قَالَ , حَلَفَ أَبُو بَكْر أَلَّا يُنْفِق عَلَيْهِ وَلَا يَنْفَعهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا , فَجَاءَ مِسْطَح فَاعْتَذَرَ وَقَالَ : إِنَّمَا كُنْت أَغْشَى مَجَالِس حَسَّان فَأَسْمَع وَلَا أَقُول . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر : لَقَدْ ضَحِكْت وَشَارَكْت فِيمَا قِيلَ ; وَمَرَّ عَلَى يَمِينه , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقَالَ الضَّحَّاك وَابْن عَبَّاس : إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ قَطَعُوا مَنَافِعهمْ عَنْ كُلّ مَنْ قَالَ فِي الْإِفْك وَقَالُوا : وَاَللَّه لَا نَصِل مَنْ تَكَلَّمَ فِي شَأْن عَائِشَة ; فَنَزَلَتْ الْآيَة فِي جَمِيعهمْ . وَالْأَوَّل أَصَحّ ; غَيْر أَنَّ الْآيَة تَتَنَاوَل الْأُمَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بِأَلَّا يَغْتَاظ ذُو فَضْل وَسَعَة فَيَحْلِف أَلَّا يَنْفَع فِي هَذِهِ صِفَته غَابِر الدَّهْر . رُوِيَ فِي الصَّحِيح أَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ : " إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَة مِنْكُمْ " الْعَشْر آيَات , قَالَ أَبُو بَكْر وَكَانَ يُنْفِق عَلَى مِسْطَح لِقَرَابَتِهِ وَفَقْره : وَاَللَّه لَا أُنْفِق عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْد الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْل مِنْكُمْ وَالسَّعَة " إِلَى قَوْله " أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِر اللَّه لَكُمْ " . قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك : هَذِهِ أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى ; فَقَالَ أَبُو بَكْر : وَاَللَّه إِنِّي لَأُحِبّ أَنْ يَغْفِر اللَّه لِي ; فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَح النَّفَقَة الَّتِي كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ وَقَالَ : لَا أَنْزِعهَا مِنْهُ أَبَدًا .

قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : هَذِهِ أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى , مِنْ حَيْثُ لُطْف اللَّه بِالْقَذَفَةِ الْعُصَاة بِهَذَا اللَّفْظ . وَقِيلَ . أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَوْله تَعَالَى : " وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّه فَضْلًا كَبِيرًا " [ الْأَحْزَاب : 47 ] . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى : " وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي رَوْضَات الْجَنَّات لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْد رَبّهمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْل الْكَبِير " [ الشُّورَى : 22 ] ; فَشَرَحَ الْفَضْل الْكَبِير فِي هَذِهِ الْآيَة , وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ . وَمِنْ آيَات الرَّجَاء قَوْله تَعَالَى : " قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ " [ الزُّمَر : 53 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " اللَّه لَطِيف بِعِبَادِهِ " [ الشُّورَى : 19 ] . وَقَالَ بَعْضهمْ : أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَسَوْفَ يُعْطِيك رَبّك فَتَرْضَى " [ الضُّحَى : 5 ] ; وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْضَى بِبَقَاءِ أَحَد مِنْ أُمَّته فِي النَّار .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقَذْف وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِط الْأَعْمَال ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْد قَوْله بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَان ; وَكَذَلِكَ سَائِر الْكَبَائِر ; وَلَا يُحْبِط الْأَعْمَال غَيْر الشِّرْك بِاَللَّهِ , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلك " [ الزُّمَر : 65 ] .

مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْء لَا يَفْعَلهُ فَرَأَى فِعْله أَوْلَى مِنْهُ أَتَاهُ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينه , أَوْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينه وَأَتَاهُ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي " الْمَائِدَة " . وَرَأَى الْفُقَهَاء أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَل سُنَّة مِنْ السُّنَن أَوْ مَنْدُوبًا وَأَبَّدَ ذَلِكَ أَنَّهَا جُرْحَة فِي شَهَادَته ; ذَكَرَهُ الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى.

" وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْل " " وَلَا يَأْتَلِ " مَعْنَاهُ يَحْلِف ; وَزْنهَا يَفْتَعِل , مِنْ الْأَلِيَّة وَهِيَ الْيَمِين ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ". وَقَالَتْ فِرْقَة : مَعْنَاهُ يُقَصِّر ; مِنْ قَوْلك : أَلَوْت فِي كَذَا إِذَا قَصَّرْت فِيهِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا " [ آل عِمْرَان : 118 ] .

" أَنْ تُؤْتُوا " أَيْ أَلَّا يُؤْتُوا , فَحُذِفَ " لَا " ; كَقَوْلِ الْقَائِل : فَقُلْت يَمِين اللَّه أَبْرَح قَاعِدًا ذَكَرَهُ الزَّجَّاج . وَعَلَى قَوْل أَبِي عُبَيْدَة لَا حَاجَة إِلَى إِضْمَار " لَا " . " وَلْيَعْفُوا " مِنْ عَفَا الرَّبْع أَيْ دَرَسَ , فَهُوَ مَحْو الذَّنْب حَتَّى يَعْفُو كَمَا يَعْفُو أَثَر الرَّبْع .



تَمْثِيل وَحُجَّة أَيْ كَمَا تُحِبُّونَ عَفْو اللَّه عَنْ ذُنُوبكُمْ فَكَذَلِكَ اِغْفِرُوا لِمَنْ دُونكُمْ ; وَيُنْظَر إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( مَنْ لَا يَرْحَم لَا يُرْحَم ) .